حق المتهم في الصمت
يعتبر حق المتهم في الصمت من حقوق الدفاع التي تمثل حجر الزاوية بالنسبة للمحاكمة العادلة، وضمانة أساسية وهامة لحماية حرية الأفراد وحقوقهم، كما أن هذا الحق يتصل بمبدأ البراءة وهو حق لازم لتحقيق التوازن بين المصلحة العامة والحقوق والحريات الفردية، ولبيان حق المتهم في الصمت سنوضح أولاً تعريف المتهم كشخص توجه ضده إجراءات الدعوى الجزائية.
وقد شهدت المملكة العربية السعودية العديد من التطورات المعاصرة في مجالات مختلفة؛ اجتماعية وسياسية واقتصادية وحقوقية وغيرها؛ وهذه التطورات دفعت حاجات المستجدات المعاصرة، ومن ذلك: النظام الجنائي رغبة في إعطاء مزيدًا من الفعالية والشمول في مواجهة التغير الكمي والنوعي للجريمة ومرتكبيها؛ وفيما يتعلق بحقوق وضمانات المتهم فقد أصدرت المملكة العربية السعودية في السنوات الماضية: ثلاثة أنظمة هامة هي: نظام الإجراءات ونظام المرافعات الشرعية، ونظام المحاماة، والتي تهدف إلى تسهيل الإجراءات وتحقيق العدالة التي تتوافق مع تعاليم الشريعة الإسلامية، وتتسق مع متطلبات حماية حقوق الإنسان؛ وذلك من خلال الحفاظ على حقوق الناس وحاجاتهم وعدم التمييز بينهم؛ انطلاقاً من المبدأ الذي يقضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
ماهية حق المتهم في الصمت
وعرف بأنه امتناع المتهم عن الإجابة على الأسئلة الموجهة إليه من قبل أفراد السلطة العامة وذلك بمحض إرادته دون أن يكون هناك أي عائق صحي أو عاهة طبيعية.
ويأتي حق المتهم في الصمت إعمالاً لقرينة البراءة ونتيجة من نتائجها، وهذه القرينة التي تفترض بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات، إذ أن هذه القرينة تبقى قائمة طوال جميع إجراءات الدعوى الجزائية، ونتيجة لذلك، لا يطلب من المتهم إثبات براءته القائمة أصلاً بمقتضى قرينة البراءة، وعليه فإن الاتجاه الغالب في الفقه يقرر منح المتهم الحرية الكاملة في إبداء أي أقوال، وله الحق في أن يلتزم الصمت.
حق المتهم في الصمت في نظام الإجراءات الجزائية
اتفق الفقه على تقسيم نظم الإجراءات الجزائية إلى ثلاثة أقسام هي الاتهامي والتنقيبي والمختلط، وكل نظام له نظرته الخاصة لحقوق الفرد حين يوجه إليه الاتهام وأسلوب معين في التوفيق بين مصلحتي المجتمع والمتهم.
[1] النظام الاتهامي
يعد هذا النظام أحد أقدم النظم التي عرفتها الإنسانية، ويقوم هذا النظام على أساس أن إجراءات الدعوى الجزائية لا تختلف عن إجراءات الدعوى المدنية، أي أن هذا النظام يعد الدعوى الجزائية خصومة قضائية عادية شأن سائر الخصومات بين الأفراد، ولم تزل فكرة هذا النظام قائمة في النظام الأنجلو أمريكي، وبموجب هذا النظام فإن المجني عليه هو الذي يتحمل عبء الإثبات ولا تتدخل السلطات العامة في جمع الأدلة لإثبات التهمة وفق القاعدة الفقهية التي تحكم الدعوى المدنية (البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
ومع أحقية المتهم في الاعتراف أو إنكار التهمة إلا أن صمته وعدم الإجابة يعد معادلاً للاعتراف في القانون الروماني الذي يعد مصدر هذا النظام، إذ أن القاضي يتوصل إلى الحقيقة من خلال ما يقدمه الخصوم من بينات وحجج، ومن ثم كان من الطبيعي أن سكوت المتهم في مواجهة حجج خصومه من بينات تدينه تعد دافعاً لقناعة القاضي بإدانته.
[2] النظام التنقيبي
ظهر هذا النظام أثر التغيرات السياسية التي أدت إلى تقوية السلطة المركزية في الدولة، إذ أنه يعتمد على مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى إظهار الحقيقة لإقرار سلطة الدولة في العقاب بحيث أن الجريمة لا تلحق ضررًا بالمجني عليه وحده إنما تشكل عدوانا على المجتمع، فالمتهم بموجب هذا النظام لا يتمتع بحقوق إجرائية خاصة به، وهذا النظام مغاير النظام الاتهامي، فالخصومة الجزائية في هذا النظام ليست نزاعاً شخصياً بين المتهم والمجني عليه كما هو الحال في النظام الاتهامي.
[3] النظام المختلط
برز هذا النظام ليحقق التوازن بين حماية المصلحة العامة من ناحية، والمحافظة على حقوق الأفراد من ناحية أخرى؛ فهو يجمع بين مزايا النظامين السابقين ويحد من عيوبهما، وهذا النظام هو السائد في معظم التشريعات الجزائية الحديثة، وقد تم العمل به في قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي سنة 1808م، وقد أخذ بهذا النظام كل من نظام الإجراءات الجنائية السعودي، وقانون الإجراءات الجنائية المصري، وقانون الإجراءات الجنائية اليمني.
ويقوم هذا النظام على التوازن بين حقوق الاتهام التي تتولاها النيابة العامة وحقوق الدفاع للمجني عليه، مع اعطاء الضمانات التي تمكنه من الدفاع عن نفسه واثبات براءته من التهمة، ومن ضمن هذه الضمانات ألا يكون المتهم ملزماً بالكلام ولا إجباره على ذلك أو استخدام التعذيب معه وله حرية الإجابة عن الأسئلة وله حق الصمت.
ضمانات ونطاق حق المتهم في الصمت
لا يستطيع المتهم ممارسة حق الصمت إلا بوجود ضمانات تقرر ممارسة هذا الحق، وهذه الضمانات إما أن تكون إجرائية أو موضوعية منصوص عليها في النظام.
الضمانات الإجرائية
نصت قوانين الإجراءات الجزائية على قواعد تحد من سلطة الدولة في التعسف وهي ضمانة لحقوق المتهم وبما يحقق التوازن بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد ولو كان متهماً، وهذه القواعد تتمثل:
أولاً: تنبيه المتهم إلى حقه في التزام الصمت
اشترطت بعض القوانين على ضرورة تنبيه المتهم إلى حقه في الصمت قبل إجراء التحقيق معه، نذكر منها : ما نص عليه القانون العام الإنجليزي إلى توفير أقصى حد لضمان هذا التنبيه إذ يلزم الشرطة عند توجيه الأسئلة إلى المتهم أو المشتبه به إلى تنبيهه بأنه غير ملزم بالكلام ما لم يرغب هو بذلك، وعلى المحقق أن ينبهه عند كل سؤال لضمان أن المتهم مدرك هذا الحق أو لا يزال تحت التنبيه، فهذا الحق ممنوح للمتهم بموجب القانون، وقد قرر قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الصادر سنة 2002 مقرر بتبليغ المتهم من قبل قاضي التحقيق بحقه في الصمت، أما بالنسبة للتشريعات العربية فقد ألزم قانون الإجراءات الجزائية العماني في مادته (88) المحكمة أثناء توجيه التهمة إلى توجيه نظر المتهم إلى أنه غير ملزم بالكلام أو الإجابة.
ثانياً: عدم استخدام الوسائل غير المشروعة للحصول على اعتراف المتهم
إذا كان القانون قد قرر للمتهم الحق في الصمت بعدم إجابته عن الأسئلة الموجهة إليه، فمن باب أولى عدم الضغط عليه أثناء استجوابه، والامتناع عن استخدام أي وسائل العنف ضده أو إرغامه على الإجابة على ما يوجه إليه أو إرهاقه أو إطالة مدة الاستجواب، ولا يجوز استخدام وسائل الإكراه المادي والمعنوي للتأثير عليه أثناء استجوابه، فاستخدام الضرب أو التهديد بالضرب أو بالحاق الأذى به أو بأحد أقاربه وتخويفه وترهيبه يعتبر انتهاكاً لحق المتهم في الصمت، وكذلك إغرائه بتحسين ظروفه أو خداعة لدفعه إلى الاعتراف، أو استخدام الوسائل العلمية الحديثة كالتخدير أو التنويم المغناطيسي أو جهاز كشف الكذب تعتبر وسائل إرغام للمتهم على الكلام مما يعد تعدياً على حقه في الصمت، ومن ثم فهي وسائل غير مشروعة يحرم اللجوء إليها، فضلاً أن ذلك كله يعتبر مخالفاً لقاعدة جوهرية مقررة لمصلحة المتهم في الدفاع عن نفسه بالوسيلة التي يراها مناسبة.
ثالثاً: عدم اتخاذ الصمت قرينة على إدانة المتهم
الصمت حق مقرر للمتهم فلا يجوز للمحكمة أن تبني على استعمال حقه في الامتناع عن الإجابة أي نتيجة، كما لا يجوز اعتبار صمته اعترافاً ضمنياً؛ لأن الاعتراف يجب أن يكون صريحاً وواضحاً لا يحتمل أي تأويل آخر، فالمتهم يتمتع بالحرية التامة في الإجابة عن الأسئلة التي توجه إليه، ومن حقه أن يلتزم الصمت إذا شاء ولا عقاب عليه إذا امتنع عن الإجابة عن أي سؤال، وقد أشارت معظم التشريعات الجزائية والاتفاقيات والمؤتمرات الدولية إلى هذه الضمانة.
الضمانات الموضوعية
فكما قررت القوانين الجزائية الإجرائية ضمانة حق المتهم في الصمت، فإن القوانين الجزائية الموضوعية تقرر هذه الضمانة أيضاً، وعلى ذلك، فالتعذيب محرم شرعاً وقانونياً، ويتمثل السبب في التحريم من الناحية القانونية، أنه إذا كان تقدير الدليل في المسائل الجزائية هو أمر يخضع للملاءمة والتقدير الشخصي للقاضي، إلا أن الحصول على هذا الدليل نفسه مسألة مشروعية لا تقدير فيها ولا ملاءمة، ومن بديهيات القانون أن تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف يهدم مشروعية الإجراء ومشروعية الدليل.
ومن جانب آخر فإنه لا يكفي لتقرير حق المتهم في الصمت أن نعترف بوجود هذا الحق ونقرر له الضمانات الإجرائية التي تضمن تحقيقه، فقد يحصل إخلال بهذا الحق وانتهاك له، فكان لابد من وجود حماية من هذا الإخلال، فإذا كان القانون الإجرائي الجزائي يحرم اللجوء إلى الوسائل غير المشروعة لانتزاع أقوال المتهم فلابد من وجود عقاب لمن يخالف ذلكن فتحريم التعذيب والعنف ضمانة أخرى للمتهم للالتزام بالصمت واطمئنانه إلى عدم وجود وسيلة لإجباره على الكلام، وعلى هذا الأساس، فقد ذهبت العديد من التشريعات إلى تجريم الاعتداء على المتهم لحمله على الاعتراف، وعلى السياق نفسه حظرت المواثيق والمؤتمرات الدولية تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف، كما حظرت تلك المواثيق الاستشهاد بأية أقوال أو دليل تحصل نتيجة التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة للكرامة الإنسانية.
نطاق حق المتهم في الصمت
من المعلوم أن الأسئلة التي توجه للمتهم إما أن تكون متعلقة بالاتهام أو متعلقة بالبيانات الشخصية للمتهم، فنطاق حق المتهم في الصمت إنما يقتصر على الحالة الأولى دون المتعلقة بالبيانات الشخصية للمتهم مثل اسم المتهم وسنه ومهنته وعنوانه وكل ما يتعلق ببياناته الشخصية، والعلة في ذلك أن هذه البيانات من شأنه أن يحمل المحقق على التأكيد من أن الشخص الماثل أمامه هو المتهم لكي لا يتخذ أي إجراء ضد بريء، وكذلك فإن معرفة عمر المتهم له دور في تحديد أهليته للمسؤولية الجزائية، كما أن مهنة المتهم كأن يكون موظفاً له الأثر في تعيين القواعد الإجرائية والعقابية، بالإضافة إلى أن هذه البيانات ليس فيها ما تمس أو تضعف مركز المتهم أو تجرمه، وقد قضت المحكمة العليا الايرلندية بأن الحق في التزام الصمت له صفة دستورية منصوص عليها في المادة 38/1 من الدستور الايرلندي، إلا أن هذا الحق لا يمتد إلى الإجابة على أسئلة الشرطة المتعلقة بالاسم أو تاريخ الميلاد أو الجنسية، فهذه المعلومات لا يكون فيها تجريم ذاتي.
أما بالنسبة للأسئلة المتعلقة بالاتهام، فإن للمتهم الحق في التزام الصمت؛ لأن سلطة الاتهام هي التي تتحمل عبء الإثبات، وهذه القاعدة تطبيق لمبدأ عام هو البينة على من أدعى، وسنده المنطق السليم الذي يقرر أن الأصل في الإنسان البراءة، ولما كان المدعي يقوم بخلاف هذا الأصل فقد تعين عليه أن يثبت ادعاءه.
الوسوم:السعودية, قانون, محاماة, نظام الإجراءات الجزائية